الرأي المفيد

الرفاعي عيد يكتب.. من وراء الشاشة يصمم مصيرنا؟

على منصات التواصل الاجتماعي يا صديقي، نجد أنفسنا محاطين بعين غير مرئية، عين المراقبة الاجتماعية، التي تُقيّم وتُحلل كل ما نقدمه..

في عصرٍ باتت فيه وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، تداهمنا أسئلة جوهرية حول تأثير هذه الوسائل على هويتنا الفردية والجماعية..واسمح لي لان استعير قدرا ما من تركيزك لدقيقتين، هل نحن من نصنع هذا الواقع الافتراضي بملء أيدينا، أم أنه يُعيد تشكيلنا بطرق خفية ومرسومة بعناية؟

 

حين نفتح هواتفنا لنبحر في عوالم فيسبوك، إنستغرام، وتويتر، نجد أنفسنا في فضاء غير محدود، نتفاعل فيه مع أفكار وصور ومشاعر لا تنتمي فقط إلى حاضرنا الشخصي، بل تمتد إلى حياة وأفكار الآخرين حول العالم.. وقل ما شئت ف هذا بلا حدود، ولكن وسط هذا التفاعل الدائم، تعالى معي لنطرح السؤال الأعمق: أين نحن وسط كل هذا؟ هل ما نراه ونقدمه للعالم هو نحن بالفعل، أم هو نسخة معدلة، مُجمّلة، وأحيانًا مزيفة من ذاتنا؟

 

وحتى لا تتوه الفكرة، فعندما نعود إلى السؤال الأساسي حول ما إذا كان الواقع الافتراضي هو ما نصنعه بأيدينا أم أنه من يصنعنا، نجد أن الأمر لا يتوقف عند هذه الثنائية البسيطة، فعلى منصات وسائل التواصل الاجتماعي، تتداخل هويتنا الحقيقية مع ما نقدمه عبر الصور، المنشورات، والتعليقات، يُصبح الفرد في هذا الفضاء مخرجًا لفيلم حياته، يختار اللقطات التي يرغب في عرضها، ويعدل النصوص لتتناسب مع صورة متخيلة تُرضي الآخر أو حتى تُرضي رغبات دفينة داخله.

نرى هذا بوضوح عندما نُنشئ ملفًا شخصيًا، نختار بعناية الصور التي نُظهر فيها أكثر أناقة أو سعادة، ونتشارك اللحظات التي تبرزنا في أبهى حُللنا.

وفي كثير من الأحيان، نتجاهل أو نخفي تلك اللحظات التي لا تتناسب مع الصورة المثالية التي نريد رسمها للعالم، بهذا، نصبح جزءًا من عملية إنتاج ذات مُزيفة، مُصممة لتتوافق مع معايير وأذواق جمهور لا نعرفه شخصيًا، لكنه موجود دائمًا خلف الشاشات.

ولكن، في الوقت ذاته، نحن من يصنع هذا العالم. نحن من نقرر متى ننشر وماذا نقول، نحن من يحدد مسار الحوار، ونبني شبكات من العلاقات والاتصالات.. هذه الحرية، رغم أنها قد تبدو في بعض الأحيان قيدًا خفيًا، تمنحنا القدرة على رسم واقعنا الافتراضي.. إذًا، نحن مخرجون لواقعنا الرقمي، ولكننا أيضًا ممثلون فيه، نخضع لضغوطه ونستجيب لتوقعاته.

 

على منصات التواصل الاجتماعي يا صديقي، نجد أنفسنا محاطين بعين غير مرئية، عين المراقبة الاجتماعية، التي تُقيّم وتُحلل كل ما نقدمه، فالتفاعل الذي نحصل عليه – سواء في شكل إعجابات أو تعليقات – يصبح مقياسًا ضمنيًا لقيمة ما نقدمه، وقد يتسلل هذا المقياس إلى داخلنا ليُعيد تشكيل نظرتنا لأنفسنا، وهنا تكمن الخطورة؛ حيث نبدأ بتعديل هويتنا وسلوكياتنا لتتناسب مع ما يُتوقع منا، بدلاً من التعبير عن ذواتنا الأصيلة.

هل نحن حقًا أحرار في هذا الفضاء؟ أم أن وجودنا الرقمي مقيّدًا بمعايير لا نتحكم بها بالكامل؟ في اللحظة التي نبدأ فيها بالتفاعل على هذه المنصات، ندخل في دائرة من المراقبة الذاتية والمجتمعية، حيث نُراجع ما نقدمه باستمرار ليتناسب مع ما يُعتبر “مقبولًا” أو “شائعًا”.

بالنسبة للكثيرين، يُعتبر الواقع الافتراضي فرصةً لابتكار هوية جديدة، أو لتحسين هويتهم الحالية، وعلى هذه المنصات، يمكنك أن تكون ما تريده – شاعرًا، مُفكرًا، ناشطًا، أو حتى شخصية خيالية – دون قيود المجتمع التقليدي، في هذا السياق، يُعيد الواقع الافتراضي رسم الحدود بين الحقيقي والخيالي، ويمنحنا مساحة للتجريب والاكتشاف.

لكن، هل هذا التحرر الافتراضي يأتي بدون ثمن؟ مع كل هذا الحرية في صنع الهويات الرقمية، قد نفقد بعضًا من واقعيتنا، فبعضنا قد يشعر بالضياع بين ما هو حقيقي وما هو مصطنع، وقد نجد أنفسنا غارقين في نسخة مثالية من ذواتنا الافتراضية، لا تُشبهنا بالضرورة، ولكنها تستحوذ على جزء كبير من حياتنا، ومع مرور الوقت، قد تصبح هذه الهوية الافتراضية هي الحقيقة الوحيدة التي نعيشها.

 

في نهاية المطاف يا صديقي، يبقى السؤال: كيف يمكننا أن نحافظ على توازن ما بين هويتنا الحقيقية ووجودنا الرقمي؟ هنا يأتي دور الوعي الذاتي.

وعليه ..فعلينا أن نُدرك أن ما نقدمه في الفضاء الافتراضي هو جزء منّا، لكنه ليس كلّنا. لا يجب أن نسمح لهذا الواقع الرقمي بأن يُملي علينا كيف نعيش حياتنا أو كيف نرى أنفسنا.

الواقع الافتراضي هو أداة قوية، يمكن أن يُستخدم لبناء وتطوير هويتنا، أو يمكن أن يتحول إلى قيد خفي يُحجمنا، المسؤولية تقع على عاتقنا في كيفية استخدام هذه الأداة، فنحن من نصنع الواقع الافتراضي، لكن علينا أن نكون حذرين حتى لا يصبح هو من يصنعنا.

 

وأخيرًا يا صديقي.. إن وسائل التواصل الاجتماعي قد تكون ساحةً مفتوحة لاستكشاف الذات وصناعة هويات جديدة، لكنها قد تحمل في طياتها أيضًا خطر فقدان تلك الذات في بحر من الصور والمقارنات والتوقعات، لأننا نعيش في زمن يمتزج فيه الافتراضي بالحقيقي، لكن علينا دائمًا أن نتذكر أن هويتنا الحقيقية تتجاوز ما نقدمه على الشاشات، وأن الواقع الافتراضي لا يجب أن يكون من يصنعنا، بل أداة بيدنا لنصنع به جزءًا من قصتنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى